أكّد رئيس “حركة الاستقلال” النائب ميشال معوض اننا أمام مرحلة مصيرية من تاريخ لبنان نخوض من خلالها معركة الحفاظ على لبنان والكيان والهوية، لافتا الى ان القرارات التي ستتخذها الحكومة، في حال نالت الثقة، أو القرارات التي قد تتقاعس عن اتخاذها في الاسابيع والاشهر القليلة المقبلة قرارات مصيرية سترسم مستقبلنا ومستقبل أولادنا وأولاد أولادنا وقد تغيّر وجه لبنان كليا.
ورأى اننا اليوم امام سقوط منظومة فساد وزبائنية شارك فيها الجميع وأوصلت البلد إلى الإفلاس، داعيا الى الاعتراف بالحقيقة الموجعة أن دولتنا أفلست واقتصادنا انهار وان كل يوم اضافي نتنكّر فيه لهذه الحقيقة تصبح إمكانية الإنقاذ أصعب وأطول والكلفة أكبر بأضعاف.
معوض، وفي كلمة القاها خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري في مجلس النواب، لفت الى ان الافلاس الحاصل يعود لأربعة اسباب، السبب الاول نظامنا أو طريقة تطبيقنا للنظام حيث ان هناك مشكلة بنيوية بآلية اتخاذ القرارات، السبب الثاني سوء الإدارة والفساد والزبائنية والمحسوبيات، والصفقات والسمسرات والمحاصصة، السبب الثالث السياسات المالية والنقدية والاقتصادية، اما السبب الرابع فهو تموضع لبنان الاقليمي، أو بوصف أدق، التناقض بين تموضع لبنان السياسي الحالي وبين طبيعة اقتصاده ومصالحه وخريطة شركائه الاقتصاديين.
وشدد “على ضرورة تطبيق سياسة النأي بالنفس بالأفعال وبموجب اتفاق وطني بقناعة تامة من “حزب الله” لأننا لم نعد قادرين على الاستمرار في منطق المكابرة والهيكل سيسقط على رؤوس الجميع”، داعيا رئيس الجمهورية من موقعه الدستوري الى ان يبادر للتوصّل الى هذا الاتفاق.
واضاف: “تعاطيّ بهذه الأزمة ليس من باب المزايدة الشعبية ولا من باب العبثية، بل على العكس تماما انا مقتنع انه يجب ان نتوصّل الى حلّ مقبول بين الناس والأحزاب والقوى السياسية والأسواق المالية والمجتمعَين العربي والدولي”، لافتا الى أن وجود حكومة أفضل من الفراغ، وأن البوابة لأي حل هي حكومة تعيد ثقة الناس بمؤسساتها الدستورية وتحصل على ثقة وازنة وميثاقية في المجلس وتكون مقبولة من المجتمعين العربي والدولي وقادرة على اتخاذ إجراءات سريعة ضمن خطة متكاملة للإنقاذ، طبعا لا تستثني التحضير لإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
معوض رأى “ان المشكلة في الحكومة الماثلة أمامنا أنها لا تلبّي أي شيء من المثلّث الذي تكلّمت عنه، لأن الأساس في الحكومة ليس فقط بامتلاكها برنامجا، إنما بامتلاكها هوية تجعلها قادرة على تنفيذ البرنامج، محملا اكثر من فريق في هذا المجلس مسؤولية الفشل في التوصل لاتفاق وطني حول حكومة تحظى بأكبر دعم ممكن”.
اما في ما خص البيان الوزاري، فأثنى معوض على بعض النقاط الايجابية، وفي مقدمتهم التزام الحكومة بمواكبة إقرار قوانين استقلالية القضاء، والمنظومة القانونية التي تسمح بمحاربة فعالة للفساد، ومنها قانون جديد للإثراء غير المشروع، وقانون استعادة الاموال المنهوبة، وقانون تعزيز الشفافية ورفع السرية المصرفية والتصريح عن الذمة المالية لموظفي الدولة، مستغربا في الوقت عينه كيف أن البيان لم يأت على ذكر قانون رفع الحصانة الذي يشكل اولوية وطنية وأساس محاسبة أي مسؤول عن الفساد مهما علا شأنه.
معوض اوضح ان اساس المشكلة في هذا البيان الوزاري انه لا يعترف بواقع الانهيار وحجمه وهو بمثابة مواضيع انشاء على اطلال الوطن، فيتكلم عن أزمة أو أزمات في حين اننا في حالة افلاس وانهيار، كما انه يهتم بأمور كثيرة في حين ان المطلوب اجوبة واضحة بشأن كيفية مواجهة وادارة تحدي الإفلاس، وعن مدى حجم فاتورة الإنهيار، متوجها بلسلسة أسئلة: ما هو المبلغ الذي نحتاج الى تأمينه ليعود وينطلق البلد في الأشهر الأولى، ومن تاريخ اليوم الى سنتين: 5 مليار دولار؟ 10 مليار دولار؟ 20 مليار؟ 50 مليار؟ أو 70 مليار دولار؟ كم؟
من سيدفع الفاتورة؟ وكيف؟ أصحاب المصارف؟ والى أي حد؟ المودعون؟ من يملكون حسابات تتخطى مبلغ معيناً؟ وكيف؟ والى أي حد؟
ماهي المدة التي ستبقى فيها أموال الناس قيد الحجز؟ سنة؟ 5 سنوات؟ 10 سنوات؟ كم سنة؟
من سيدفع الفاتورة؟ الفاسدون عبر استعادة الأموال المنهوبة؟ وما هي التوقعات بالأرقام الحقيقية؟
كل الشعب من خلال التغيير بسياسة سعر صرف الليرة بعد ان خسر أساسا 40 بالمئة من قدرته الشرائية؟
ما هي خطة الدولة بشأن الاستحقاقات المالية بالـ”يوروبوندز”؟ أول استحقاق في آذار… فهل ستدفع؟ هل ستفاوض على إعادة هيكلتهم؟ أو ستتخلّف عن الدفع من دون مفاوضة؟ وبهذه الحالة ما هي الإنعكاسات القانونية والمالية والاقتصادية لهذا التخلّف؟
وهل تعتبر الحكومة صندوق النقد الدولي شريكا محتملا في عملية الإنقاذ أم ان الذهاب باتجاهه يعتبر مسّ بالسيادة؟
وأخيراً: اذ اصبح من الواضح ان جزءا من الفاتورة سيتم تسديده من بيع او تشركة اوخصخصة موجودات الدولة أو بعض قطاعاتها، هل يأتي البيع قبل أو بعد الإصلاحات البنيوية؟
كيف ستموّل الحكومة هذا العجز في الموازنة في وقت يرفض الجميع في الداخل والخارج تمويل الدولة؟ هل بطباعة العملة الورقية كما يحدث الآن؟ أو بمزيد من الاستدانة من مصرف لبنان من ودائع الناس؟ هل تعي الحكومة ماذا يعني عجز في الموازنة في هذا الظرف؟ لا التزام بتصفير العجز ولا التزام واضح في الاصلاحات.
معوض دعا للاستجابة الى مطالب اللبنانيين الذين اختاروا بعد “ثورة 17 تشرين” وطنا لا مزرعة، مسؤولين تحت سقف القانون لا زعماء أنصاف آلهة، قضاء مستقلا وعادلا واستعادة الأموال المنهوبة وفاسدين في السجن، حقوق مواطنة تجمعهم لا عصبيات وواسطات وفسادا يفرّقهم، اقتصادا منتجا وفرص عمل لا اقتصادا ريعيا وتوظيفات زبائنية، وقال: “على القوى السياسية أن تختار اليوم اما ان تلاقي اللبنانيين وتقوم بإصلاحات جذرية ضمن المؤسسات بأقل كلفة على الجميع ولو كانت موجعة، أو ذاهبون نحو صدامات مفتوحة نعرف اين تبدأ ولا نعرف اين تنتهي”.
وطلب معوض من كل نائب قبل ان يقرّر منح الثقة أو حجبها ان يضع امامه صورة اولاده لا لتوريثهم صفقات ومناصب وكراسي اوصلت البلاد لديون وإفلاس وذل، لافتا الى المطلوب ان نورّث الأجيال القادمة وطنا يليق بكل التضحيات التي دفعنا ثمنها غاليا عبر السنين.
في الختام امتنع معوض عن اعطاء الثقة للحكومة، وقال: “لكل هذه الأسباب المتعلّقة بهوية الحكومة وغياب برنامج واضح لمواجهة وإدارة الإفلاس، ورفضي إعطاءها “شيكا” على بياض في هذه الظروف، لن اعطي الثقة لهذه الحكومة. لن أعطي الثقة للحكومة كما لا يمكنني اعطاء الثقة لأي معارضة سلطوية شريكة بالفساد وبما وصلنا اليه، لأن القصة اليوم ليست ثقة أو لا ثقة، حكومة أو لا حكومة، عهد أو لا عهد. القصة اليوم اصبحت بلد أو لا بلد، ولكن أقصى تمنياتي للبنان أن اقف هنا بعد 3 او 4 اشهر واقول أني أخطأت بقراءتي”.
في ما يلي خطاب معوض كاملا:
دولة الرئيس،
لسنا اليوم في جلسة ثقة والقصة أكبر بكثير، نحن أمام مرحلة مصيرية من تاريخ بلادنا. الحكومات تأتي وتذهب، وان كانت هذه الحكومة بأعضائها غير مسؤولة عما وصلنا اليه، إلّا أن القرارات التي ستّتخذها او لن تتّخذها خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة في حال نالت الثقة، سترسم مستقبلنا ومستقبل أولادنا وأولاد أولادنا في هذا البلد.
خضنا في السابق معركة الحرية والسيادة والإستقلال، لكن التحدي اليوم امامنا أكبر وأخطر، تحدي الحفاظ على الكيان، على الهوية وعلى لبنان!
إذا لم يتم اتخاذ القرارات المصيرية الصحيحة، واكرّر خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، الخطر سيكون بتغيّر كلّي لوجه لبنان. الخطر امامنا ليس ان نفتقر، وهو بحد ذاته كارثة، بأن يفقد لبنان دوره كبلد الحرّيات والتعدّدية، كجامعة ومستشفى الشرق، لبنان الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية التي ساهمت بانجاح اللبناني في كل العالم، لبنان نمط الحياة الذي نتمسّك به ونصرّ على المحافظة عليه… اي باختصار نحن أمام خطر ان يتحوّل لبنان الى فنزويلا الشرق مع ثروات طبيعية أقل.
دولة الرئيس،
من المستحيل ان نصف علاجا لوضعنا إذا ما وصّفنا حالتنا، فمريض سرطان لا يُعالَج بدواء للقلب وقطعًا ليس بـ”بنادول”.. ما نعيشه بعد “17 تشرين” ليس ثورة بوجه نظام ديكتاتوري كي تفوز الثورة أو يفوز النظام، فبطبيعة الحال ليس هذا هو الوضع، نحن أمام سقوط منظومة أوصلت البلد إلى الإفلاس، منظومة فساد وزبائنية شارك فيها الجميع بعد اغتيال الرئيس رينه معوض، بُنيت في المرحلة الاولى برعاية وإدارة سورية ولسوء الحظ، أكملت وتفشّت بعد الـ2005، وشاركت فيها معظم الأحزاب والقوى السياسية والاقتصادية والمالية، كما شارك فيها مسؤولون أمنيون وقضاة ورجال دين وإعلاميون وحتى قسم كبير من الشعب من خلال تصويته بالانتخابات لاركان هذه المنظومة التي نراها تسقط اليوم لأنها أفلست البلد، وهذا الامر لا يُعالج بالقنابل المسيلة للدموع ولا بالرصاص المطاطي ولا بوضع القوى الأمنية بوجه الناس ولا ببناء الجدران ولا بتراشق المسؤوليات، بل بداية بالاعتراف بالحقيقة مهما كانت موجعة، والحقيقة دولتنا افلست واقتصادنا انهار وعلينا التصرّف على هذا الأساس. وبسبب هذا الافلاس نواجه أزمة سيولة والناس يقفون لساعات وساعات امام المصارف من أجل أن يسحبوا مبلغا محددا من الدولارات في الأسبوع مع العلم ان نسبة هذه السحوبات الى انخفاض. لاننا مفلسون هناك سعران لصرف الدولار والاتجاه لان يصبح هناك 3 أسعار. بسبب الافلاس اللبنانيون عاجزون عن تحويل الاموال الى الخارج بحرية، ما اضطرنا الى تنظيم عمليات استيراد المحروقات والطحين والدواء، وبالتالي بدأنا في مواجهة صعوبة في استيراد المواد الأولية للصناعة وايضا المعدات والتجهيزات الطبية للمستشفيات، كما ان آلاف الشركات أقفلت او في طريقها الى الاقفال، والقطاعات الاقتصادية في حالة انهيار، وعشرات آلاف من اللبنانيين واللبنانيات، كي لا نقول اكثر، خسروا او سيخسرون وظائفهم، ونسبة الفقر بين اللبنانيين تجاوزت الـ40% وسط توقعات لان تصل الى50% قبل نهاية السنة..
دولة الرئيس،
صعب الاعتراف بهذه الحقيقة، لكن المصيبة الاكبر أن نستمر بالكذب على انفسنا وعلى الناس، فالاعتراف بالحقيقة وتوصيف حالتنا كما هي مهما كانت صعبة، هو المدخل الوحيد لسلوك طريق الانقاذ. فلبنان ليس الدولة الأولى التي تقع في الانهيار.
فالعديد من الدول أفلست قبلنا واضطرّت الى اتخاذ القرارات الصعبة والقيام بالاصلاحات اللازمة وتمكنت من الخروج من أزمتها. الحقيقة مؤلمة لكن كل يوم اضافي نتنكّر فيه لهذه الحقيقة يصبح الوجع أكبر وإمكانية الإنقاذ أصعب وأطول والكلفة أكبر بأضعاف.
دولتنا مفلسة واقتصادنا منهار، وبارتكاب الاخطاء نفسها يستحيل معالجة الوضع، لذا علينا ان نعرف الاسباب التي اوصلتنا الى الإفلاس.
4 أسباب اوصلتنا الى هذه الحال:
ـ السبب الأول يكمن في نظامنا أو في طريقة تطبيقنا للنظام: هناك مشكلة بنيوية بآلية اتخاذ القرارات، حتى داخل اي مؤسسة أو شركة هناك آلية لاتخاذ القرارات. لنفترض ان هناك شركة مجلس إدارتها مؤلّف من 7 اعضاء، وكل عضو من هؤلاء يملك حق الفيتو ولكن لا يملك صلاحية القرار، من المؤكد ان هذه المؤسسة أو الشركة مصيرها الإفلاس، فكيف إذا كان هذا الحال ينطبق على بلد ودولة.
فإذا ما كان يحصل على مدى السنوات الماضية كان على قاعدة: إما اتفاق على المحاصصة اما خلاف وبالتالي تعطيل متبادل كلفنا سنوات من الفراغ، وبهذا نفهم لماذا يقول الجميع “ما عم يخلّونا نشتغل”!
ـ السبب الثاني هو سوء الإدارة والفساد والزبائنية والمحسوبيات، بالاضافة الى الصفقات والسمسرات والمحاصصة، وهذا ليس مجرد فساد في قلب بنية الدولة، بل منظومة حكم بُنيت على الفساد على حساب المؤسسات. فبدل ان تستوعب الدولة ومؤسساتها الطوائف وتنوّعها، زعماء الطوائف على تنوعّهم استوعبوا الدولة وتحاصصوها. والنتيجة 90 مليار دولار دين حتى لا نقول 130 مليارا، ديون مصرف لبنان، لا طرقات ولا كهرباء ولا مياه نظيفة ولا طائرات لاخماد الحرائق ولا ضمان شيخوخة ولا بطاقة صحية ولا انترنت سريع مع العلم أن كلفة الانترنت لدينا هي الأغلى في العالم، حتى ان المطار فيه تسرّب للمياه، كما انه لا يوجد اي ملف مكتمل تديره الدولة اللبنانية.
ـ السبب الثالث هو السياسات المالية والنقدية والاقتصادية. يعلّموننا في السنة الأولى في الجامعة في علم الاقتصاد أنه عندما تريد تثبيت سعر الصرف أو المحافظة على قوة عملة وطنية لا يجوز ان يكون هناك عجز في الموازنة يُذكر. التناقض بين موازنات بعجز بنيوي وضخم منذ التسعينات الى اليوم نتيجة كل ما ذكرناه سابقا، وبين تثبيت سعر الصرف الذي كلفنا مليارات الدولارات، نعم دولة الرئيس مليارات الدولارات، وفي المقابل رفع الفوائد إلى حدّ منع الاستثمار في القطاعات المنتجة، وتحوّل اقتصاد لبنان الى اقتصاد ريعي غير منتج، وهو ما أوصل العجز في الميزان التجاري في العام 2018 لحوالي 17 مليار دولار… “وحلوها إذا بعد تنحلّ”!
وهنا اود ان اذكّر يا دولة الرئيس أننا لطالما كنا معارضين لهذه السياسات، وهذه القاعة تشهد كيف عارضت نائلة معوض منذ التسعينات مع قلّة من النواب هذه السياسات ودفعوا أثمانا غالية… رحم الله نسيب لحود واطال بعمر الرئيس حسين الحسيني وكل الباقين الذين يعرفهم اللبنانيون.
ـ السبب الرابع الذي اصبح الكثيرون يفضّلون عدم التكلّم عنه بشكل علني، هو تموضع لبنان الاقليمي، أو بوصف أدق، التناقض بين تموضع لبنان السياسي الحالي وبين طبيعة اقتصاده ومصالحه وخريطة شركائه الاقتصاديين!
لست هنا بصدد مناقشة موقفي السياسي المعروف من هذا التموضع، إنما ما اقوله أن لبنان بجميع الاحوال لا يستطيع ان يتموضع سياسيا في محور إيران من جهة، في حين بنى اقتصاده من جهة ثانية بالكامل استنادا الى المحور الثاني، اي أميركا، وصولا الى الدول العربية والخليجية، وفي طليعتها السعودية والامارات، بدءا من التبادل التجاري للاستثمارات السياحية وحجم المنتشرين اللبنانيين في هذه الدول الذين يحوّلون مليارات الدولارات سنويا، وصولا الى المساعدات الدائمة التي تطالب بها هذه الحكومة في بيانها الوزاري. هذه المعادلة لا تنطبق فقط على لبنان إنما على اي دولة في العالم. لنأخذ مثلا فيديل كاسترو، جار الولايات المتحدة، لكنه قرر أخذ كوبا الى محور الاتحاد السوفياتي، ايّده البعض وعارضه البعض الاخرفي خياره، إنما كاسترو كان منسجما مع نفسه، فذهب باتجاه هذا الخيار وبنى اقتصاده على هذا الأساس.
بالعودة الى لبنان، اذا اردنا التموضع مع ايران، بغض النظر عن رأيي في هذا الموضوع، فعلى الاقل علينا ان نكون قادرين على بناء اقتصاد قابل للحياة مع هذا المحور، ليس بالخطابات بل بالوقائع والأرقام. اي في حال اردنا ان نطرح الصين كبديل للولايات المتحدة، وايران كبديل للسعودية والامارات، على الصين ان تكون موضوعا قابلا، وأن لا تنسحب الشركات الصينية من لبنان مثلما انسحبت من ايران بعدما اعادت اميركا فرض العقوبات على ايران بعد الخروج من الاتفاق النووي، “وتا ما نضحك على بعضنا” كل المعنيين يدركون ان الصين ليست في هذا الوارد.
وايضا يجب ان تؤمن هذه الشراكة مع ايران البديل لمئات الألوف من الوظائف وان تعوّض التحاويل والاستثمارات والمساعدات والتبادل التجاري بمليارات الدولارات سنوياً.
واذا كنا عاجزين عن ضمان نجاح هذه الشراكة، أنا لا اطرح أن يكون البديل دخولنا في المحور الثاني. البديل هو أن نطبّق سياسة النأي بالنفس بالأفعال. ماذا تعني سياسة النأي بالنفس؟ تعني المحافظة على صداقاتنا مع كل الدول وعدم التدخّل في شؤونهم. النأي بالنفس لا يعني ان لا ندافع عن أرضنا أو حدودنا في وجه إسرائيل أو أي تهديد ثان. الخلاف هنا مع “حزب الله” هو على الآلية وليس على المبدأ، لأننا نرى ان هذه الالية يجب ان تحصل من خلال الاتفاق على استراتيجية دفاعية تحت إدارة الدولة اللبنانية. النأي بالنفس لا يعني عدم القبول بتوطين الفلسطينيين وعدم القبول ببعض السياسات الدولية بشأن ملف النازحين السوريين. هذه ملفات في صلب سيادتنا وتمسّ بالمصلحة الوطنية اللبنانية ومن حقنا ان نواجه العالم فيها بذكاء. النأي بالنفس يعني على سبيل المثال ان لا نهاجم السعودية والإمارات من اجل الحوثيين في اليمن. النأي بالنفس يعني أن لا نكون في المحور الأميركي، ولكن في الوقت عينه لا نكون رأس حربة في مشروع إخراج الأميركيين من المنطقة ولا في مشروع مدّ نفوذ إيران في المنطقة. والنأي بالنفس يا دولة الرئيس، لا يعني استخدام “تعابير إنشائية” في البيانات الوزارية، جرّبناها مع الرئيس سعد رفيق الحريري بما يمثّل من شبكة علاقات عربية ودولية استثنائية موروثة ولم تنجح، والأكيد انها لن تنجح مع الرئيس حسان دياب مع كل الاحترام لشخصه. دولة الرئيس لا اقول هذا الكلام في وجه “حزب الله” إنما اقوله لـ”حزب الله” بيد ممدودة لإنقاذ بلدنا لأننا لم نعد قادرين على الاستمرار في منطق المكابرة والهيكل يسقط على رؤوس الجميع. النأي بالنفس يحصل بموجب اتفاق وطني بقناعة تامة من “حزب الله”، وأدعو رئيس الجمهورية من موقعه الدستوري الى ان يبادر للتوصّل الى هذا الاتفاق.
دولة الرئيس،
تعاطيّ بهذه الأزمة ليس من باب المزايدة الشعبية ولا من باب العبثية، بل على العكس تماما انا مقتنع انه في سبيل الحد من الاثمان علينا جميعا ان نتوصّل الى حلّ مقبول بين الناس والأحزاب والقوى السياسية والأسواق المالية والمجتمعَين العربي والدولي. نعم، أنا مقتنع أن وجود حكومة أفضل من الفراغ، وأن البوابة لأي حل هي حكومة قادرة على اتخاذ إجراءات سريعة ضمن خطة متكاملة للإنقاذ، طبعا لا تستثني التحضير لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. أما السؤال: “لماذا أطرح الحكومة قبل الانتخابات”؟ لأن الوضع المالي والاقتصادي لا يحتمل عدة اشهر تأخير من دون اتخاذ الإجراءات المطلوبة، عدة اشهر لدعوة الهيئات الناخبة وتنظيم الانتخابات ومن بعدها استشارات وتشكيل الحكومة.
نعم البوابة هي الحكومة شرط ان تكون حكومة قادرة على مواجهة التحديات بهويتها وبالركائز الداخلية والخارجية التي تعتمد عليها، وقادرة ببرنامجها ان تعالج الأسباب الأربعة التي تكلّمنا عنها وبالتالي توقف الانهيار. لهذا طرحت من الأساس حكومة مبنية على 3 أسس: اولا حكومة تعيد ثقة الناس بمؤسساتها الدستورية، لأن أي حكومة لن تتمكن من الحكم إذا بقي الوضع على هذا الحال في الشارع خصوصاً أنه بات من المؤكد انه سيكون هناك إجراءات موجعة، ما سيرفع نسبة الفقر على مدى ثلاث سنوات في أحسن الأحوال؟! ثانيا حكومة تتمكن من الحصول على ثقة وازنة وميثاقية في المجلس ومحصّنة باتفاق وطني على تنفيذ الإصلاحات وليس على المحاصصة. ثالثا حكومة مقبولة من المجتمعين العربي والدولي تعيد وصل ما انقطع بين لبنان وشركائه العرب والدوليين. من هذا المنطلق كنت قد طرحت تشكيل حكومة متخصّصين غير حزبيين برئاسة السفير نواف سلام، الا ان البعض زايد علينا بهذه التسمية حيث اعتبر البعض ان سلام “أميركي” وهذا ظلم كبير وهم نفسهم أتونا بحكومة أكثر من نصف وزرائها لديهم الجنسية الأميركية.
دولة الرئيس،
بغض النظر عن وجود بعض الوزراء المشهود لهم، المشكلة في الحكومة الماثلة أمامنا أنها لا تلبّي أي شيء من المثلّث الذي تكلّمت عنه، لأن الأساس في الحكومة ليس فقط بامتلاكها برنامجا، إنما بامتلاكها هوية تجعلها قادرة على تنفيذ البرنامج. وهذه الحكومة عجزت عن ارضاء الشارع والدليل ما يحصل في الخارج، كما انها لم تحظى باتفاق سياسي ميثاقي لا بل على العكس تماما فانها تؤسس لخلاف سني- شيعي، وشاهدنا الجهود التي بُذلت لتتأمن لها الثقة ولو بفارق صوت واحد، ومن الواضح أنه يتم مقابلتها ببرودة عربيا ودوليا كي لا نقول اكثر. هنا اود ان اقول أنني لا احمّل مسؤولية تشكيل هذه الحكومة حصرا للفريق السياسي الداعم لها، إنما احمّل اكثر من فريق في هذا المجلس مسؤولية الفشل في التوصل لاتفاق وطني حول حكومة تحظى بأكبر دعم ممكن.
دولة الرئيس،
أما على مستوى البرنامج فقرأت البيان الوزاري بتمعّن. طبعا هناك نقاط ايجابية فيه، وفي مقدمتهم التزام الحكومة بمواكبة إقرار قوانين استقلالية القضاء، ومن جهة ثانية المنظومة القانونية التي تسمح بمحاربة فعّالة للفساد، ومنها قانون جديد للإثراء غير المشروع، وقانون استعادة الاموال المنهوبة، وقانون تعزيز الشفافية ورفع السرية المصرفية والتصريح عن الذمة المالية لموظفي الدولة، مع العلم أنه من المُستغرب كيف أن البيان لم يأت على ذكر قانون رفع الحصانات الذي هو أساس محاسبة أي مسؤول عن الفساد مهما علا شأنه، وهو امر يجب ان يكون أولوية وطنية لأن إقرار هذه القوانين أساس لمحاسبة قضائية للفاسدين. اليوم امامنا فرصة تاريخية، فمن جهة ضغط الثورة ومن جهة ثانية وجود النقيب ملحم خلف والرئيس سهيل عبود والوزيرة ماري كلود نجم ومن جهة ثالثة لجنة نيابية فرعية لإقرار هذه القوانين، وبالتالي علينا ان نقرّ هذه القوانين بأقل من شهرين، وأي تأخير لم يعد مقبولا يا دولة الرئيس.
لن ادخل بنقاش مفصّل لكل البنود بل سأتكلم عن أساس المشكلة في هذا البيان الوزاري.
الأساس أن هذا البيان لا يعترف بواقع الانهيار وحجمه، وما زال يتكلم عن أزمة أو أزمات. نتكلم عن أزمة اذا بلغ معدل النمو صفرا بالمئة أو نمو سلبي بنقطة او نقطتين. ولكن حين نتوقع أن يتراجع الدخل القومي لأكثر من 20 بالمئة، وحين نتساءل ما اذا يجب ان نسدد استحقاقاتنا او لا، وحين ينتظر المواطنون لساعات للحصول على جزء قليل من اموالهم فنكون في انهيار، وإذا اردنا ان نصارح انفسنا والناس يجب ان نصف وضعنا بدقة بأنه افلاس وإنهيار.
النقطة الثانية والأهم أن الحكومة تناولت في بيانها الوزاري أمورا كثيرة، انطلاقا من الخطط الى المترو والقطار والى مباني مدرسية وجامعية حديثة، الى مستشفى عسكري مركزي حديث، الى كل أنواع شبكات الأمان الاجتماعي، الى خطط الكهرباء والبيئة، وصولا الى حقوق المرأة وتحديث الإدارة العامة… والى غيرها وغيرها من الأمور والوعود. يعني انه ينطبق على هذا البيان الوزاري قول الإنجيل “مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة أما المطلوب فواحد”. والمطلوب من حكومة مواجهة التحديات ان تجيبنا بوضوح كيف ستواجه وتدير تحدي الإفلاس… وكل الباقي في هذا الوضع اصبح مثل الدولار بالـATM.
دولة الرئيس نريد جوابا من الحكومة عن مدى حجم فاتورة الإنهيار، اي ما هو المبلغ الذي نحتاج الى تأمينه ليعود وينطلق البلد في الأشهر الأولى، ومن تاريخ اليوم الى سنتين: 5 مليار دولار؟ 10 مليار دولار؟ 20 مليار؟ 50 مليار؟ أو 70 مليار دولار؟ كم؟
من سيدفع الفاتورة؟ وكيف؟ أصحاب المصارف؟ والى أي حد؟ المودعون؟ من يملكون حسابات تتخطى مبلغ معيناً؟ وكيف؟ والى أي حد؟
على الحكومة ايضا ان تعطينا جوابا بشأن المدة التي ستبقى فيها أموال الناس قيد الحجز؟ سنة؟ 5 سنوات؟ 10 سنوات؟ كم سنة؟
من سيدفع الفاتورة؟ الفاسدون عبر استعادة الأموال المنهوبة؟ وما هي التوقعات بالأرقام الحقيقية؟
كل الشعب من خلال التغيير بسياسة سعر صرف الليرة بعد ان خسر أساسا 40 بالمئة من قدرته الشرائية؟
على الحكومة ان تطرح لنا خطتها بشأن الاستحقاقات المالية بالـ”يوروبوندز”؟ أول استحقاق في آذار… فهل ستدفع؟ هل ستفاوض على إعادة هيكلتهم؟ أو ستتخلّف عن الدفع من دون مفاوضة؟ وبهذه الحالة ما هي الإنعكاسات القانونية والمالية والاقتصادية لهذا التخلّف؟
وهل تعتبر الحكومة صندوق النقد الدولي شريكا محتملا في عملية الإنقاذ أم ان الذهاب باتجاهه يعتبر مسّ بالسيادة؟
وأخيراً: اذ اصبح من الواضح ان جزءا من الفاتورة سيتم تسديده من بيع او تشركة اوخصخصة موجودات الدولة أو بعض قطاعاتها، هل يأتي البيع قبل أو بعد الإصلاحات البنيوية؟
اطرح هذا السؤال يا دولة الرئيس لأنه في موضوع الإصلاحات والتي تترجم نتائجها بالموازنة والعجز بالموازنة، الحكومة تتحدث عن خفض العجز في الموازنة من دون ان تلتزم بأي أرقام أو تواريخ، وهذا يأتي بعدما تبنّى رئيسها موازنة الحكومة السابقة التي صحّحنا فيها الكثير داخل لجنة المال والموازنة، لكنها بقيت خارج المكان والزمان. كيف ستموّل الحكومة هذا العجز في الموازنة في وقت يرفض الجميع في الداخل والخارج تمويل الدولة؟ هل بطباعة العملة الورقية كما يحدث الآن؟ أو بمزيد من الاستدانة من مصرف لبنان من ودائع الناس؟ هل تعي الحكومة ماذا يعني عجز في الموازنة في هذا الظرف؟ لا التزام بتصفير العجز ولا التزام واضح في الاصلاحات.
نلحظ في ما خص موضوع التهرّب الجمركي انه لا يوجد التزام بالوقت مع ان هذا الامر قادر ان يحقق دخلا للخزينة يتراوح ما بين الـ500 مليون والمليار دولار سنويا وإجراءاته لا تحتاج لـ100 يوم… تحتاج الى قرار؟ اما في ما خص خطة الكهرباء فهل تأخذ الدولة بعين الاعتبار أنه من المحتمل ان لا يكون هناك وجود لمستثمرين جدد نتيجة مشاكل التمويل المستجدة والقيود الموضوعة على تحويل الاموال بين الداخل والخارج، وأن هناك توجها لدى الشركة التي التزمت معمل دير عمار الى التنصّل من المشروع؟ وهذا ينطبق على كل مشاريع الخصخصة أو الشراكة مع القطاع الخاص. وما هي الخطة الحقيقية خارج العناوين الفضفاضة للإصلاحات البنيوية الجريئة بالفساد في المؤسسات التي لا نملك القدرة الرقابية عليها (فوق الـ90 مؤسسة)، وفي حجم الدولة، وفي مسألة الموظفين الذين عُيّنوا خلافا للقانون، وفي النظام التقاعدي وفي شفافية المناقصات العمومية على سبيل المثال؟ والسؤال الأخير في هذه المرحلة الانتقالية: ما هي الأولوية لحماية المواطنين الأكثر فقرا في هذه المرحلة الانتقالية؟ وإذا كان الجواب ان هناك صفحة في البيان الوزاري عن مشاريع حول شبكات الأمان الاجتماعي للبنانيين، السؤال الثاني: من اين التمويل؟
هذه الأسئلة التي نريد أجوبة عليها من الحكومة، اما الباقي في هذا المرحلة مواضيع إنشاء على أطلال الوطن.
دولة الرئيس،
اختار اللبنانيون بعد “ثورة 17 تشرين” وطنا لا مزرعة، مسؤولين تحت سقف القانون لا زعماء أنصاف آلهة، قضاء مستقلا وعادلا واستعادة الأموال المنهوبة وفاسدين في السجن، لا يريدون بلدا يتكلم فيه الجميع عن الفساد لكن الفاسدين فيه أشباح، يريدون حقوق مواطنة تجمعهم لا عصبيات وواسطات وفسادا يفرّقهم، اقتصادا منتجا وفرص عمل لا اقتصادا ريعيا وتوظيفات زبائنية، أوتوسترادات “مزفتة” وكهرباء ومياه وبيئة نظيفة خالية من النفايات وانترنت، وكل البنى التحتية “ومش زفت تحت العريشة وقدام البيت”..
على القوى السياسية أن تختار اليوم: اما تلاقي اللبنانيين وتقوم بإصلاحات جذرية ضمن المؤسسات بأقل كلفة على الجميع ولو كانت موجعة، أو ذاهبون نحو صدامات مفتوحة نعرف اين تبدأ ولا نعرف اين تنتهي.
المطلوب من كل نائب منا قبل ان يقرّر منح الثقة أو حجبها ان يضع امامه صورة اولاده لا لتوريثهم صفقات ومناصب وكراسي اوصلتنا لديون وإفلاس وذل، المطلوب ان نورّث الأجيال القادمة وطنا يليق بكل التضحيات التي دفعنا ثمنها غاليا عبر السنين.
لكل هذه الأسباب المتعلّقة بهوية الحكومة وغياب برنامج واضح لمواجهة وإدارة الإفلاس، ورفضي إعطاءها “شيكا” على بياض في هذه الظروف، لن اعطي الثقة لهذه الحكومة. لن أعطي الثقة للحكومة كما لا يمكنني اعطاء الثقة لأي معارضة سلطوية شريكة بالفساد وبما وصلنا اليه، لأن القصة اليوم ليست ثقة أو لا ثقة، حكومة أو لا حكومة، عهد أو لا عهد. القصة اليوم اصبحت بلد أو لا بلد.
لن أعطي الثقة لهذه الحكومة، ولكن أقصى تمنياتي للبنان أن اقف هنا بعد 3 او 4 اشهر واقول أني أخطأت بقراءتي… حمى الله لبنان وشكرا.