صدر عن رئيس “حركة الاستقلال” النائب ميشال معوض البيان الآتي:
بكل غصّة وحزن عميق، أنعي إلى جميع اللبنانيين في لبنان وحول العالم، مسيحيين ومسلمين، بطريرك الاستقلال الثاني بعد أن كان عايش الاستقلال الأول، غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الكلي الطوبى.
إن غبطة البطريرك صفير شخصية استثنائية في تاريخ الكنيسة المارونية ولبنان من المستحيل أن تتكرر نظراً لفرادتها على أكثر من مستوى. فبطريرك الموارنة السادس والسبعون أعاد الكنيسة المارونية إلى وهجها، وذكرنا بالبطاركة القديسين والمقاومين الذين لا ينكسرون، بدءًا بالبطريرك المؤسس للكنيسة مار يوحنا مارون، مرورا بكبار البطاركة أمثال البطاركة حجولا والحدشيتي والدويهي والحويك وغيرهم. فهو كان الأمين على إرث عمره أكثر من 1400 عام عبّر عنه ذات يوم حين قال: “التاريخ يشهد أنه إذا خُيّر المسيحيون بين الحرية والعيش المشترك فإنهم سيختارون الحرية من دون تردد”، كما قال: “”نحن الذين لجأنا الى المغاور والكهوف ليسلَمَ لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا، لتبقى لنا الحرية التي إذا عُدمناها عُدمنا الحياة“.
والبطريرك صفير كان تلميذاً نجيباً ومتواضعاً لمعلّمه يسوع المسيح، عانى ما عاناه من تجنٍّ واضطهاد وصل إلى حد التعرّض له شخصياً، فلم يحقد بل سامح. ولعل من أبلغ ما تعلّمه من يسوع المسيح طلبه: “فليكن كلامكم نعم، نعم، أو لا، لا”. هكذا كان سيّدنا مقلاّ في الكلام لكن حين ينطق كان يهزّ عروش المحتلين، واللبنانيون لن ينسوا عبارته الشهيرة “لقد قلنا ما قلناه”!
يُشهد للبطريرك صفير أنه كان عرّاب “الطائف” والمصالحة الوطنية، حقناً للدماء وتطلعاً نحو بناء لبنان المستقبل بعيداً عن منطق العنف والدم وأصوات القنابل والصواريخ، وخصوصاً أنه عانى من شرذمة أبنائه الموارنة الذين “قتلوا وقُتلوا وتقاتلوا” كما وصفهم السينودس من أجل لبنان. لكنه كان تحديداً عرّاب “طائف رينه معوض”، طائف السيادة الوطنية التي لا تقبل المساومة، طائف المصالحة التي لا تستثني أحداً، وطائف الشراكة الوطنية الحقيقية التي ترفض أي إملاءات خارجية على القرار الوطني. هذا الطائف تحديداً الذي خاض غماره البطريرك صفير مع والدي لحظة بلحظة انطلاقاً من العلاقة الشخصية التي جمعتهما والثقة التي منحها البطريرك لرينه معوض، وهذا الطائف الذي اغتالوه لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رينه معوض.
ولأن “الطائف” شذّ عن طريقه بفعل الاغتيال والاحتلال والوصاية، لم يتوانَ رأس الكنيسة المارونية الذي رافق لبنان في أحلك الظروف، من أن يتولّى قيادة ثورة تحرير لبنان من الاحتلال، فأصدر نداء بكركي التاريخي في أيلول الـ2000 وأشرف على عمل لقاء قرنة شهوان التي كان لي شرف المشاركة في تأسيسها وفي خوض غمار التحديات مع أركانها، وأكمل بمثابرة وعزم قلّ نظيرهما إعادة بناء اللحمة بين اللبنانيين، فقاد مصالحة الجبل التاريخية، وصولاً إلى لقاء البريستول و”ثورة الأرز” بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كما يُسجّل للبطريرك صفير رفضه زيارة سوريا قبل حلّ الأمور العالقة مع نظامها وهو من قال “لن أذهب إلى سوريا من دون رعيتي”، ولا يزال يتردد سؤاله الشهير “وأين يقع قصر المهاجرين؟”
ثابر البطريرك الماروني على العناية لكنيسته وأبنائه عن قرب، وخلال توليه سُدّة البطريركية شهد لبنان أحداثاً جلية حُفرت في التاريخ، من السينودس من أجل لبنان وزيارة البابا القديس يوحنا بولس الثاني إلى أرضنا، وصولاً إلى جلاء آخر جندي سوري عن لبنان في 26 نيسان الـ2005.
كما كان لي الشرف بأن بارك البطريرك صفير شخصياً مراسيم زواجي ومريال وخصوصاً في ظل علاقة جمعتنا على المستويين الوطني والعائلي.
ولعل المداخلة “السياسية” الأخيرة للبطريرك السادس والسبعين في العام 2011 بعيد استقالته من منصبه، أو التمني الأخير لشباب لبنان، لا تزال تصلح ليومنا هذا بكل أسف، وهو الذي قال لهم: “أتمنى ان يعطيكم الله أياماً أفضل من هذه الأيام البائسة”. عسى بصلوات بطريركنا القديس وشفاعته لنا من حضن الآب السماوي نتخطى بؤس الأيام التي نعيشها ويمرّ بها وطننا.
وأختم بدعوة جميع الرفاق والمناصرين وأصدقاء “حركة الاستقلال” ومحبي الرئيس الشهيد رينه معوض، كما جميع اللبنانيين من دون استثناء لمواكبة كل مراسم وداع الراحل الكبير، بطريرك الاستقلال الثاني فور إعلان تفاصيلها.
غبطة بطريرك الحرية والسيادة والاستقلال والمصالحة… وداعاً!