بقلم ميشال معوّض
عمر الأرز لا يقاس بالسنين. عمر الأرز من عمر لبنان، من جذور ضاربة في التاريخ لوطن مذكور في التوراة أكثر من 70 مرّة.
هكذا هو البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الكلي الطوبى، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، بطريرك الاستقلال الثاني. هكذا هو آخر البطاركة الملتحين الذي حمل ويحمل في خفايا ابتسامته الهادئة ونظراته الثاقبة معاناة من عمر أبناء رعيته الموارنة في لبنان.
عمر مار نصرالله بطرس صفير من عمر أرز الربّ الذي بات رمزاً لوطن الأرز، فاستحق بطريرك “لقد قلنا ما قلناه” أن يُلقّب بـ”بطريرك الأرز” أو لِمَ لا “أرزة البطاركة”!
لم يعش أي بطريرك ما عاشه البطريرك صفير طيلة ربع قرن منذ العام 1986، تاريخ تبوّئه السدّة البطريركية وحتى العام 2011، من حرب لبنانية وحرب على لبنان، والأخطر كان من تقاتل الإخوة المسيحيين الذين تشرّدوا بعد تقاتلهم بين المنفى والاعتقال، لكنّ رأس الكنيسة المارونية تخطّى جراحه وجراح المجتمع وتحمّل مسؤولياته كما فعل أسلافه على مرّ التاريخ منذ البطريرك الأول مار يوحنا مارون. هكذا قاد البطريرك السادس والسبعون مع مجلس المطارنة الموارنة مسيرة تحرير لبنان من الاحتلال السوري، بدءًا من نداء أيلول الشهير من العام 2000 بعد الانسحاب الإسرائيلي، مروراً بلقاء قرنة شهوان، ووصولا الى “ثورة الأرز” فخروج آخر جندي سوري من الأراضي اللبنانية في 26 نيسان 2005.
إنه بطريرك الحريّة الذي أكد أن المسيحيين إذا خُيّروا بين الحرية والعيش المشترك فسيختارون الحرية من دون تردّد.
إنه بطريرك الميثاق الذي حضن ولادة اتفاق الطائف وصمد في وجه رافضيه كما تصدّى للذين شوّهوه عند التطبيق.
إنه بطريرك الشراكة المسيحية- الإسلامية التي أسّس عليها الاستقلال الثاني على قاعدة السيادة الوطنية في وجه الوصاية.
نادراً جدا ما تمكّن أي مسؤول لبناني أو عربي أو أجنبي من أن يستدرج “بطريرك الأرز” الى موقف لا يريده، لا بل كانوا جميعاً، وكنّا نحن من بينهم، نفشل في الاستحصال منه على موقف أو كلمة. فكان دائما في موقع المستمع، وكنّا نترقّب منه في عظة كل أحد أو في الكلام الذي يقوله حين يقرّر أن يقوله، خارطة الطريق للمرحلة المقبلة.
كل موقف لغبطته كان يثير إعصاراً سياسياً ويستدرج حملات منظمة من أتباع الوصاية السورية على لبنان. وكل هذه الأعاصير كانت تنتهي زوبعة في فنجان البطريرك الهادئ والواثق من إلهام الروح القدس فيكتفي بتعليقه الشهير “لقد قلنا ما قلناه”!
“بطريرك الأرز” لم ينحنِ يوماً ولم يساوم. عندما سألوه متى يزور قصر المهاجرين أجابهم بابتسامته: “وأين يقع قصر المهاجرين هذا؟” ليس لنقص معرفته بالجغرافيا بل لعمق معرفته بالتاريخ.
قد يكون للبنانيين اليوم نعمة كبرى لأنهم عاصروا قديسين: قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي عايش لبنان وأحب بطريركه فقرّبه منه، وقداسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي لا يزال الله ينعم به على لبنان قديساً حيّاً في ما بيننا.
وكيف لا يجمعني رابط خاص بغبطته وهو الذي سمّى الرئيس الشهيد رنيه معوّض على رأس لائحة من خمسة أسماء لرئاسة الجمهورية في العام 1988 ليقود مسيرة استعادة الدولة والجمهورية. وكيف لا يجمعني رابط خاص بغبطته وأنا الذي بدأت مسيرتي السياسية والوطنية تحت عباءته في لقاء قرنة شهوان.
في عيده، عيد “بطريرك الأرز”، نسأل الله أن يطيل بعمره، ونسأل غبطته أن يصلي لنا وللبنان كي يعطينا الله أياماً “خير من هذه الأيام البائسة” التي نعيشها.